كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فى مواجهة الواقع وتحديه! وهكذا نجد شاعرا من أصحاب النفوس الكبيرة، كالمتنبى، مثلا، تحمله نفسه الكبيرة على أن يقف موقف النّدّ مع ممدوحه سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانية، ولا يرضى أن يكون حاشية من حواشيه، حتى إذا التقى بكافور صاحب مصر، نظر إليه من سماء عالية، ولم يستطع أن يكتم ما بنفسه، من مشاعر العظمة لذاته، والإحقار لكافور، فيظهر ذلك في كل شعر قاله فيه، ومن هنا لم يلتقيا على طريق، فافترقا من أول لقاء! وأكثر من هذا.
فإن المتنبي، أبى عليه صدقه مع نفسه، أن يلتزم ما التزمه الشعر العربي من مطالع الغزل في كل قصيدة، مدحا كانت، أو ذما، أو رثاء، فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية، التي رمى بها في وجه هذا الغزل المصطنع، وقال:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم؟ أكل فصيح قال شعرا متيّم؟
بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا، فلم يرتض من أسلوب الحياة إلّا ما كان صميم الحياة ذاتها، ومن واقعها البعيد عن الصنعة والدّخل، حتى إنه ليعيب المرأة المتجمّلة بغير جمال الفطرة، الأمر الذي يكاد يكون طبيعة في بنات حواء، فيقول:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ** مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية ** وفي البداوة حسن غير مجلوب

والمتنبي في هذا، لا يقول ما لا يفعل، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ}.. بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا، وإنه ليأبى- مثلا- أن يغيّر لون شعره، حين نسخ الشيب سواده، فيقول:
ومن هوى الصّدق في قولى وعادته ** رغبت عن شعر في الرأس مكذوب

وقل مثل هذا، في أبى العلاء المعرّى الذي وقف أمّة وحده من الناس، ومن الدهر، موقف التحدّى، قولا، وعملا، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار، على كل ما لم يقبله عقله، أو تستسغه نفسه، من آراء ومعتقدات، وعادات، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه، انسحب إلى بيته، أو محبسه، وأغلق عليه بابه، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق، لا تزال منطلقة إلى اليوم، تدور في كل مدار، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها، أو يعترض طريقها.
نقول هذا، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام، ويضربون لهذا مثلا، بالشاعر لبيد، أحد أصحاب المعلقات، ويحكون أنه لم يقل بيتا من الشعر، منذ أن دخل في الإسلام.
هذا وكثير غيره مما يقال، في موقف الإسلام من الشعر والشعراء.
وهو- في رأينا- قول يخالف الحقيقة ويظلم الإسلام بتلك التهمة!.
فالقرآن الكريم. بأسلوبه المبين المعجز، هو الذي رفع قدر الكلمة العربية، وجعل للبيان العربي هذه المكانة العالية الرفيعة، حتى ليكاد يكون معجزة، لا يلقاه في ميدان الإعجاز، إلا كلمات اللّه، متحدية، قاهرة.
والشعر العربي، هو مجلى اللغة العربية، ومظهر بيانها، وشاهد بلاغتها.
فكيف يجىء القرآن الكريم، ليقتل هذا الشاهد الوحيد، الذي ينطق بإعجازه، ويحكى عن وجه الإعجاز فيه؟ وإذا مات هذا الشعر العربي، أو اختفى من الميدان، فمن أين يعرف للقرآن الكريم، إعجازه، ومن أين يؤخذ الدليل على مواقع الإعجاز فيه؟
إن القرآن الكريم، إذا وقف وحده في الميدان، فكيف يستدلّ على إعجازه؟ وبم يبين فضله على غيره من الكلام، وليس ثمة كلام غيره؟.
وندع هذا، لنقول: إن الإسلام لم يكن له موقف من الشعر العربي، من حيث هو شعر، وإنما كان موقفه هذا، من الشعر الذي غلب عليه الكذب، والذي اتخذ منه أصحابه أسلحة لنهش الأعراض، وفضح الحرائر، وبهت الشرفاء والأمجاد من الناس، وإلباسهم لباس الخزي والمذلة، ببيت من الشعر، يصير. مثلا في الناس- ويصبح المقول فيه أمثولة، فلا تقوم له بعد ذلك قائمة!! فهذا هو الشعر الذي عابه الإسلام، وأبى على المسلم أن يتخذ منه زادا له، لأنه زاد خبيث، تجتمع على مائدته الخبائث، من كذب، وبهتان، وبغى وعدوان، وكلها أطعمة يحرّمها الدين، كما تأباها النفوس الطيبة، التي لا تدين بدين!.
أما ما طاب من الشعر، وخلص من هذه الخبائث، فإن الإسلام حفيّ به، مكرم له، احتفاءه بالكلمة الطيبة، وإكرامه للقول الطيب.
ولقد سجل التاريخ الإسلامى، للصحابة رضوان اللّه عليهم، مواقف من الشعر الجاهلى، تدل على تقديرهم له، وحرصهم عليه، بل وتعلقهم به!.
فعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، كان يحفظ كثيرا من الشعر الجاهلى، ينشره حينا، ويستمع إليه أحيانا، ويسأل الوفود القادمة عليه، من قبائل العرب، عن شعرائهم، وعن أحسن ما عندهم من شعرهم.
بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضي اللّه عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، في بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!.
روى أنه- رضى اللّه- قرأ، وهو على المنبر- قول الله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} (47: النحل) فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له، فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص.
ثم أنشد:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السّفن

فقال عمر: أيها الناس، تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم.
وأمر ابن العباس- رضي اللّه عنه- في موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان اللّه عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما.
ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!.
وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان اللّه عليهم- يرون الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} (69: يس). ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع، وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات اللّه وكلماته.
ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة، ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضي اللّه عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، في بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!.
روى أنه- رضى اللّه- قرأ، وهو على المنبر- قول اللّه تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} (47: النحل) فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له، فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص.
ثم أنشد:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السّفن

فقال عمر: أيها الناس، تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم.
وأمر ابن العباس- رضي اللّه عنه- في موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان اللّه عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما.
ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!.
وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان اللّه عليهم- يرون الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} (69: يس). ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع، وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات اللّه وكلماته.
ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة، ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، ليلتقط منه هذه الحكم، وتؤخذ منه تلك الدرر، من بين هذا الغثاء الكثير، الذي كان يحمله هذا السيل المتدفق من الشعر! يروى عن أم المؤمنين عائشة- رضي اللّه عنها- أنها كانت تقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كثيرا ما يقول لى: أبياتك! أي أنشدى أبياتك المعهودة.
تقول السيدة عائشة، فأقول:
ارفع ضعيفك لا يحربنّك ضعفه ** يوما فتدركه العواقب قد نما

يجزيك أو يثنى عليك وإنّ من أثنى ** عليك بما فعلت فقد جزى

ففى هذا الشعر الذي كان يستمع إليه الرسول الكريم، دعوة كريمة من من دعوات البرّ، التي دعا إليها الإسلام، فلا غرابة في أن يهش الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه لسماعه، والإصغاء إليه.
وروى الزبير بن بكار، قال: مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ومعه أبو بكر رضي اللّه عنه، برجل، ينشد في بعض طرق مكة، هذا البيت:
يا أيها الرجل المحول رحله ** هلّا نزلت بآل عبد الدار

فقال صلوات اللّه وسلامه عليه يا أبا بكر، أهكذا قال الشاعر؟
قال لا، يا رسول اللّه، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ** هلّا نزلت بآل عبد مناف

فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «هكذا كنا نسمعها».
وأكثر من هذا، فقد كان صلوات اللّه وسلامه عليه، يستمع إلى الشعر، ويجيز على الطيب العفيف منه، كما استمع إلى قصيدة كعب بن زهير، وكان صلوات اللّه وسلامه عليه قد أهدر دمه، فلما جاءه مستخفيا وأنشده قصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ** متيّم إثرها لم يفد مكبول

والتي يقول فيها:
نبئت أن رسول اللّه أوعدنى ** والعذر عند رسول اللّه مقبول

هشّ النبي صلوات اللّه وسلامه عليه له، وعفا عنه، وخلع عليه بردته التي كان يلبسها، وأكثر من هذا فقد كان للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه شعراء، على رأسهم حسان ابن ثابت، يردّون بشعرهم على شعراء المشركين، ويلقونهم في ميدان القول، كما كانوا يلقونهم في ميدان الحرب، وكان صلوات اللّه وسلامه عليه يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك»!! فكيف يكون روح القدس وهو جبريل عليه السلام مع شاعر يقول هذا الشعر الهجائى، ويطعن به في وجوه القوم وأعراضهم؟ أليس ذلك لأنه سلاح من أسلحة الحرب، وأنه بهذا السلاح إنما يقاتل المشركين بمثل أسلحتهم؟
ولهذا جاء قوله تعالى معقبا على آية الشعراء {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا}.
إن لكل مقام مقالا، وإذا كان هذا المقام- في حرب المشركين- يقتضى أن يكون لشعر الهجاء مكانه، فإن للشعر في مقام الخير، والإحسان، مكانا أوسع وأرحب!. اهـ.